التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مأزق التمركز حول الذات








إن حالة مركزية الذات Ego centrism في حقل الدراسات النفسية يُقصد بها الحالة التي يكون فيها الفرد مستغرقًا في عالمه الداخلي الخاص، منشغلًا بذاته، مبالغًا في تقدير أهميتها للدرجة التي يتصور فيها- واهماً- أنه مركز الأسرة والعالم المحيط به، وأن كل مَن حوله من بشر قد وجدوا من أجل خدمته وتلبية رغباته، وأن آراءه واهتماماته هي الأكثر صدقًا وأهمية من آراء واهتمامات الآخرين.

ويرى عالم النفس السويسري الشهير "جان بياجيه" أن حالة مركزية الذات هي في الأساس الحالة الطبيعية للأطفال تحت 6 سنوات، ولهذا فمع النمو المعرفي والوظيفي في المرحلة العمرية من 7- 12 سنة تقل لدى الطفل نزعة مركزية الذات ويبدأ في استيعاب وجهات نظر الآخرين، والحوار معهم، ويصبح الطفل قادرًا على التحصيل المعرفي على نحو أكثر انفتاحًا ومرونة.

وعلى الرغم من أن غالبية الأبحاث التي أجريت على موضوع "مركزية الذات" تركز في المقام الأول على التطور النفسي والمعرفي في مرحلة الطفولة، فبعض الدراسات الأخرى أثبتت امتدادها أحيانا إلى مرحلة المراهقة المتأخرة ومرحلة البلوغ أيضًا؛ حيث يرى عالم النفس "ديفيد إلكينيد" أن اهتمامات المراهق الصغير تتمركز حول ذاته، ولأنه غير قادر على التمييز بين ما يفكر به الآخرون وبين أفكاره الذاتية، فهو يفترض أن الآخرين مشغولون بتصرفاته ومظهره بالقدر نفسه الذي يفكر به هو في نفسه.

ولتوضيح فكرته قام "ديفيد إلكينيد" بصياغة بعض المصطلحات التي تًساعد على وصف السلوكيات التي يمارسها المراهقون، وتثبت تمركزهم حول ذواتهم، مثل مصطلح "الجمهور التخيلي" ومصطلح "الخرافة الشخصية".

ويشير مصطلح "الجمهور التخيلي" إلى أن المراهق يظن دائمًا أنه محط أنظار الجميع، وأن المحيطين به في أي سياق يوجد فيه يركزون بشدة على ما يقوله أو يفعله.

أما مفهوم "الخرافة الشخصية" فيشير إلى اعتقاد المراهق أن أسلوب تفكيره مميز جدًا، وأنه الوحيد القادر على التفكير بهذا الأسلوب.

إذن، فإن حالة "التمركز حول الذات" ، هي سمة نفسية ومعرفية تظهر في مرحلة الطفولة والمراهقة وبداية البلوغ؛ ولها في تلك المراحل ما يبرر وجودها، ولكنها إذا استمرت مع الإنسان في مراحل عمره اللاحقة وفي سنوات شبابه ونضجه، فإن هذا يعني أن هذا الإنسان لم يشبّ عن الطوق نفسيًا ومعرفيًا ووجوديًا، وأنه وقع فيما أطلق عليه الفيلسوف الأمريكي "رالف بارتون بيري" مصطلح مأزق التمركز حول الذات؛ وهو "المأزق المعرفي للذهن الذي يجد من المستحيل عليه الخروج من دائرة إحساساته وأفكاره الخاصة، ليعرف العالم والواقع مباشرة"، مما يجعل صاحبه بعد ذلك سجينًا لمعارفه السطحية وخرافاته الشخصية وأسيرًا لجمهوره التخيلي.

وأظن أن وسائل التواصل الاجتماعي التي خلقت جمهورًا متخيلًا كبيرًا، ونشّطت شهوة الكثيرين للكتابة، ويسّرت لهم إبداء الرأي في القضايا المختلفة بدون امتلاك المعرفة اللازمة وأدوات التحليل والنقد، مع اعتقادهم أن وجهات نظرهم وأحكامهم حقائق مطلقة لا تقبل الشك أو المناقشة، قد أثبتت لنا أن مأزق التمركز حول الذات الذي يجعل الإنسان سجينًا لأوهامه عن ذاته والعالم من حوله، قد صار هو خطيئة الإنسان المعاصر، والمرض المعرفي لعصرنا الراهن، وأنه سبب التناحر الدائم في العالم الافتراضي، الذي لم يعد فضاءً للحوار وتبادل وجهات النظر والتفاعل بين البشر من أجل زيادة الخبرة والمعرفة، وإثراء الذات ووجودها، بل ميدانًا للصراع وتبادل الاتهامات والسباب بين العديد من الذوات الطفولية المراهقة المتمركزة حول ذواتها، والمنفصلة عن الواقع وحقيقة العالم.


د. أحمد عمر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التمحور حول الذات

الأنانية هي اهتمام الإنسان بنفسه بشكل مفرط وكلي وبحثه وتركيزه على مصلحته الخاصة ومسراته وثرائه دون اعتبار للآخرين. يخلق هذا الكائن البشري الذي نطلق عليه تسمية الإنسان خير بالفطرة ولكنه سرعان ما نجده يكوِّن سلوكاً مرضياً ويبدأ بحصر نشاطاته وتفكيره بذاته وتدفعه غريزة التملك إلى الاهتمام بنفسه وذاته فقط ويسعى بكل جهده للوصول إلى تحقيق رغباته الذاتية بطرق مختلفة لا يقبلها العقل ولا المنطق ولا ما يمكن أن نسميه التكافل الاجتماعي هذا الإنسان الذي يحب ذاته لا يرى إلا نفسه ولا يهمه مصلحة الآخرين لا بقليل ولا بكثير. ولنكن موضوعين فنقول لا مانع للإنسان أن يحرص على نفسه وأن يحقق ذاته ولكن عليه أن يعفل ذلك ضمن حدود الوسطية التي تعطيه وتعطي الآخرين، تحقق مصلحته ومصلحة الآخرين وبشكل متوازن دون إفراط أو غلو أو حرمان الآخرين من حقهم في السهر على مصلحتهم، وبمعنى آخر أن يكون هناك مشاركة بين جميع أفراد المجتمع من حيث تبادل المنافع حتى تتحقق السعادة في المجتمع. ربما لا نبالغ إذا قلنا إن الأنانية تعمل عمل الطاعون في المجتمع وإذا بحثنا في المجتمعات عن سبب تقدمها أو تأخرها نجد أنه كلما وجد تفاعل بين أفراد ال...

قراءة في فكر إدجار موران

هذا المقال هو دراسة حول توظيف مفهوم تربية المستقبل عند إدجار موران في منهج التربية الإسلامية تمهيد يُعد إدجار موران من أبرز المفكرين الذين اهتموا بدراسة التحديات التي تواجه التربية اليوم، ولقد عالج ذلك في كتابه تربية المستقبل، وذلك إثر تكليف من اليونسكو. وقد عد سبع مثالب تواجهها التربية حاليًا ومستقبلا. وفيما يلي نستعرض خمسا من سمات تربية المستقبل: تنقية المعرفة، وإصلاح طرق التفكير، وتعليم الشرط الإنساني، وتعليم الهوية الأرضية، وتعليم الفهم الإنساني. 1- تنقية المعرفة إن السمة الأولى من سمات تربية المستقبل هي التأكيد على أن المعرفة ليست يقينية. فالمعرفة ليست منزهة عن الخطأ، فلم يستطع الإنسان يوماً ما الوقوف على قمة مستوى اليقين في المعرفة، وذلك لأنه بطبيعته البشرية يخطئ ويصيب، ولأن عقله لم يعط قدرة مطلقة للمعرفة، إضافة لعدم قدرة عقل الإنسان على الوصول لهذا المستوى من اليقين، فإنه لم يُعط القدرة على الإحاطة بالمعارف على مدار الزمان والمكان. ولقد سبق لماركس وانجلز أن وضحا، في الأيديولوجيةالألمانية، كيف أن البشر شيدوا على الدوام تصورات خاطئة حول أنفسهم وح...